Cancel Preloader

حين ودّعنا الحياة، احتضنتنا كربلاء

Loading

عنوان الرواية: حين ودّعنا الحياة، احتضنتنا كربلاء

د. بتول عرندس

إلى القلوب التي فقدت الحياة لكنها لم تفقد الإيمان، وإلى الأرواح التي علّمتنا أن الحزن ليس نهاية الطريق، بل بدايته.

الوداع الأخير

في صباحٍ بدا عادياً، احتضنت الحياة كوثر وآيات للمرة الأخيرة كما عرفتاها. والدتهما، بابتسامتها الحانية، كانت تراقب من باب المنزل وهما ترتبان حقائبهما استعداداً للعودة إلى سكن الجامعة. بجانبها، وقفت أختهم الكبرى، التي كانت في شهرها الثامن من الحمل، تطلب منهما أن تعودا سريعاً لأنها ستحتاج دعمهما عندما يحين موعد ولادتها.

الأب، كما اعتاد، حمل الحقائب وأوصل كوثر وآيات إلى السكن الجامعي، مودّعاً إياهما بابتسامة وعبارات تطمئنهن:
“نلتقي قريباً، لا تقلقا، البيت ينتظركما، والحياة أجمل حين نكون معاً.”

لكن الوداع هذه المرة كان مختلفاً، كان وداعاً لم يُكتب له لقاء.

المأساة التي غيّرت كل شيء

في المساء ذاته، غطّى الظلام قلب القرية، ليس بسبب الليل، بل بسبب الحرب التي ابتلعت كل شيء. أصوات القذائف أحاطت بالبيت الصغير، حيث الأم تحتضن ابنتها الكبرى، وتحاول أن تحميها وجنينها. الأب كان يحاول إنقاذهما، لكنه سقط شهيداً معهما في لحظة واحدة.

حينما وصل الخبر إلى كوثر وآيات، كانت الكلمات ثقيلة كالرصاص. لم تعد هناك أم تنتظرهما، ولا أب يفتح لهما الباب، ولا أختٌ كبرى تتحدث عن حلم الأمومة. كل شيء انتهى تحت الأنقاض.

الرحيل نحو النور

بعد أيام من الصدمة والبكاء، قررت كوثر وآيات الرحيل. لم يعد هناك شيء يُبقِيهن في القرية سوى الحنين الذي يثقل القلوب. رافقتهما زوجة عمهما زهراء، تلك المرأة التي كانت نموذجاً للإيمان والثبات، رغم غياب زوجها في ساحات القتال.

“لن نترككن وحدكن، سنذهب إلى حيث القلوب تستمد القوة من الإيمان. إلى كربلاء، إلى حيث يكون الحزن طريقاً نحو الصبر.”

كان القرار واضحاً: تركن كل شيء خلفهن وتوجهن إلى العراق، إلى كربلاء، حيث استقر بهن الحال في فندق “أرض النور”، قريباً من حرم أبي الفضل العباس.

كربلاء: موطن القلوب الجريحة

في ذلك المكان المقدس، وسط الأجواء المفعمة بالروحانية، بدأ الألم يتحول شيئاً فشيئاً إلى قوة. كربلاء ليست مدينة فحسب، بل حضنٌ لكل قلبٍ منكسر، وملجأ لكل روحٍ متعبة.

جلست مع كوثر وآيات في إحدى الأمسيات. كانت عيونهن تحمل حكايات أكبر من أعمارهن. نظرت كوثر إليّ وقالت بصوت خافت لكنه مليء بالإصرار:
“حين فقدنا كل شيء، فهمنا معنى كربلاء. أهل البيت فقدوا أحبّتهم، لكنهم لم يفقدوا رسالتهم. نحن هنا لنستمد منهم القوة.”

أما آيات، فقد كانت صامتة لبعض الوقت قبل أن تقول:
“أختي الكبرى كانت تنتظر مولودها. كانت تحلم أن تكون أمّاً. سأحقق حلمها. سأكون أماً لكل حلم تُرك خلف الأنقاض. سأعيش من أجلها ومن أجل أمي وأبي.”

زهراء: الأم الثانية

كانت زهراء، زوجة عمهن، أكثر من مجرد امرأة ترافقهما. كانت أماً ثانية، أختاً، ومرشدة.

“الله أعطاني هاتين الفتاتين أمانة. سأكون لهن كما كانت زينب لأطفال كربلاء. الألم ليس النهاية، بل بداية مسؤوليتنا في هذه الحياة.”

كانت زهراء توقظ كوثر وآيات لصلاة الفجر، تدعوهما إلى زيارة الحرم يومياً، وتزرع في قلبيهما حب الحياة من جديد.

صوت القوة

في إحدى الليالي، وفي باحة الفندق المطلّة على الحرم، وقفت كوثر لتلقي كلمة أمام زوار كربلاء الذين تجمعوا لسماع قصتها. بصوتٍ هادئ لكن مفعم بالإيمان، قالت:

“حين ودّعنا أهلنا، لم نكن نعرف كيف نعيش بدونهم. لكننا تعلمنا من كربلاء أن الفقد ليس نهاية الطريق. الحسين علّمنا أن نصنع من الألم رسالة، وأن نحمل الحزن بكرامة. نحن هنا اليوم لنكمل أحلام من فقدناهم. حلم أمي أن ترانا قويات، وحلم أبي أن نبني حياتنا رغم كل شيء. أما أختي الكبرى، فكانت تنتظر مولودها، وأنا اليوم أعيش لأكون امتداداً لذلك الحلم الذي لم يكتمل.”

النهاية: من الحزن يولد الأمل

كوثر وآيات ليستا مجرد أختين. هما درسٌ في الصبر، في الإيمان، وفي كيفية تحويل الحزن إلى طاقة للحياة.

حين غادرت كربلاء، كانت كلمات كوثر ترنّ في أذني:
“الحياة ليست لنا وحدنا. نحن أمانة لأهلنا، وأمانة لكل من يثق بنا. وكما علّمتنا كربلاء، سنبقى أقوياء.”

“حين تحترق الأرض تحت أقدامنا، نبحث عن السماء لنستمد منها النور. وفي كربلاء، وجدنا ذلك النور.”

MNews