علاج جديد للأمراض السرطانية
يتطرز جسم الانسان بمزيج من الأنسجة المتنوعة التي حيكت بتصميم بالغ الدقة والكمال. بعض هذه الأنسجة قاس قساوة الصخر مثل النسيج العظمي، وبعضها بض الطراوة مثل الشحم والعضلات وبعض هذه الأنسجة يتدفق مائعا في مجرى العروق مثل الدم. لكن بالرغم من هذا التنوع والاختلاف بين الأنسجة الا أنها جميعا تتكون من لبنات بناء صغيرة تسمى الخلايا. الخلية بحد ذاتها هي كون مصغر تقوم بوظائفها عبر ماكنات حيوية بداخلها تسعّر آلافا بل ملايين التفاعلات الكيميائية التي تعجز عنها أعتى المصانع العملاقة والمسارعات النووية. من أحد اهم وظائف الخلية هي تجديد نفسها لابقاء انسجة الجسم غضة ومنتعشة. تقوم بذلك عن طريق استنساخ نفسها جينيا لتنتج عدد من الخلايا الجديدة يتناسب مع عدد الخلايا التي أصبحت قديمة او تلفت، ثم يتوقف ذلك الاستنساخ عند تحقيق الهدف والوصول للعدد الذي يعوّض التالف عبر جينات مثبطة تقوم مقام الفرامل في السيارة. يحدث السرطان عندما تحدث طفرة وخلل في هذه الفرامل الجينية فيستمر الاستنساخ الذاتي للخلايا بلا توقف وينتج عددا فائضا من الخلايا تتكتل حول بعضها على شكل ورم ينمو بلا توقف ضاغطا على الأنسجة والاعضاء المجاورة مختلسا غذائها ومواردها تاركا إياها ذاوية متهالكة.
تقوم فكرة العلاج الكيماوي التقليدي على مبدأ ان الخلايا السرطانية تبني نفسها بشكل اسرع من معظم الخلايا الطبيعية وبالتالي تقوم هذه العقاقير بتعطيل أدوات ومحركات البناء في جميع الخلايا سواء الخلايا السرطانية أو السليمة على أمل أن تتأثر الخلايا السرطانية أكثر من تلك السليمة كونها ما تزال في طور البناء وبالتالي يتجمد نموها ويحد من انتشارها، لكن هذه القوة العلاجية الغاشمة تؤثر ايضا على قدرة الأنسجة الطبيعية على انتاج خلايا لتجديد نفسها فتبلى، خاصة تلك الأنسجة التي تتجدد باستمرار مثل الدم وبصيلات الشعر ومن هنا يعاني المرضى الذي يتلقون العلاج الكيماوي من فقر الدم وتساقط الشعر.
بالسنوات الأخيرة تفتّقت البحوث الطبية عن نوع جديد من العلاجات الكيماوية يتلافى التأثير على بقية اعضاء وانسجة الجسم عن طريق استهداف الخلايا السرطانية وحدها بمهاجمة الطفرات الجينية المسؤولة عن الاستنساخ الذاتي للخلايا السرطانية. علاج موجه وفائق الدقة يستهدف البصمة الوراثية للورم ويمر بسلام دون أن يضر الخلايا الطبيعية وبالتالي تقل الآثار الجانبية المصاحبة للعلاج الكيماوي التقليدي والتي قد تكون اشد ضراوة من الورم نفسه. الفرق بين العلاج الكيماوي التقليدي والعلاجات الكيماوية الموجهة هو تماما كالفرق بين البراميل المتفجرة والصواريخ الذكية الموجهة بالليزر.
وللعلاجات الكيماوية الموجهة (Targeted Chemotherapy) أهمية خاصة عندما يتعلق الأمر بأورام الدماغ المنتشرة اليه من اماكن اخرى. ذلك ان جزيئات هذه الأدوية أصغر حجما من نظيرتها التقليدية وبالتالي تستطيع النفاد من السياج البيولوجي الذي يعزل بيئة الدماغ الحساسة عن الدم المتدفق بين ثناياه على عكس جزيئات الادوية الكيماوية التقليدية التي ترتد بعيدا عن سياج المخ فلا تصل الى الورم.
هناك مشكلة تتمثل بسعر هذه الادوية ذلك ان الشركات المطورة لها تبيعها بسعر باهظ لاسترداد تكاليف البحوث الطبية المكلفة التي انبثقت منها هذه الادوية. الامر الذي يشكل تحديا للدول الفقيرة لانعدام البحوث العلمية فيها من جهة وعدم قدرتها على شراء هذه الادوية مما سيزيد من الهوة والفجوة في القدرات الطبية بينها وبين الدول المتقدمة.
البحث العلمي المتسارع في هذا الحقل الجديد سيشكل فجرا جديدا في علاج السرطان ويفتح آفاقا للأمل في مواجهة هذا المرض العنيد.
طبيب متخصص في جراحة أورام الدماغ
